المجلة التركية _ د.عبدالوهاب القرش
باحث في العلوم الإسلامية ومقارنة الأديان
كتبت الأستاذة «مريم جميلة» – هي مارغريت ماركوس “23 مايو 1934م – 31 أكتوبر 2012م ” أمريكية من أصل يهودي ثم أسلمت – فصلاً عن الإسلام والفنون في كتابها «الإسلام في النظرية والتطبيق».. وذكرت أن الأوروبيين يحترمون احترامًا بالغًا «بتهوفن» و«باخ» في الموسيقى و«فردي» و«واجنر» في الأوبرا و«شكسبير» في المسرح.. الخ. ويلقبونهم بالسادة العظام ، ويعتبرون تكريس الحياة لأي فرع من هذه الفنون الجميلة من أشرف المقاصد وأكثرها جدًا!.
تقول «مريم جميلة»: وإذ عرفت موهبة شخص ما بالتفوق الفني ـ وغالبًا ما يقع ذلك بعد سنوات من رحيله ـ حسب في زمرة العظماء الخالدين! ويحقق الروائيون التقليدين خلودهم الفني عندما تطبع كتبهم مرات ومرت وتمتدح على أنها أعمال أدبية عظيمة يلزم كل طالب في المدارس أن يدرسها.
ويخلد مؤلفو الموسيقى السمفونية، والأوبرا باداء إنتاجهم مرارا وتكرارا في قاعات الاحتفالات العظمى في المدن الكبرى كما يكرم أعظم المغنين والعازفين بتسجيل أعمالهم على الأشرطة والاسطوانات.
قلت لنفسي: ما المنهاج الإسلامي الذي أقدمه لهذه الأوساط؟ هل أطلب إليهم الغاء الفنون الجميلة جملة وتفصيلا
علام أعتمد في هذا الطلب؟ على جملة من الأحاديث الواهية والموضوعة لا وزن لها في مجال التمحيص العلمي؟.
إنني عندما أفعل ذلك أكون كأبي العلاء المعري الذي قال لكل إنسان:
غَدَوتَ مَريضَ العَقلِ وَالدينِ فَاِلقَني…لِتَسمَعَ أَنباءَ الأُمورِ الصَحائِحِ
فلما التقى الناس به واستمعوا إليه رأوه نباتيًا يعرض الأمور الصحيحة عنده على أنها ترك أكل اللحم!.
إنني أطلب من الأوربيين وغيرهم ترك التجسيد والتعديد لإصلاح عقائدهم فهل أضع عائقًا أمام هذا الإصلاح الخطير بدعوتهم إلى ترك الغناء والموسيقى؟ فما يكون موقفي من قوله تعالى في كتابه المصون: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ . وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}(يونس:59-60).
أستطيع أن أحرم نحت التماثيل، أستطيع أن أحرم كل صورة عارية، أستطيع أن أحرم الرقص مفردًا ومزدوجًا، إن هذه فنون رديئة وليست فنونًا جميلة…
أستطيع أن أبرز الضوابط الإسلامية لسلوك الأفراد مهما كانوا عباقرة، فالعبقري في أي علم أو فن يجب أن يستشعر نعماء الله عنده، وأن يكون أتقى لله وأحفظ لحدوده، وأرعى لحقوقه من الآخرين..
والمصادر الوثيقة لتحدي ما نفعل وما نترك وما نأمر وما ننهى، هي كتاب الله وسنة رسوله، لا الشائعات الطائرة في ميدان العلم الديني!.
ويصف لنا الكاتب البريطاني محمد مرمادوك بكثال – روائي وصحفي وقيادي ديني وسياسي أسلم عقب تقديمه لخطاب حول “الإسلام والتقدم” في 29 نوفمبر، 1917- في كتابه «الثقافة الإسلامية» مدى تعلق الأوروبيين بالفنون الجميلة تجعلنا نضرب كفًا بكف من شدة العجب للضلال المبين الذي استولى على أفئدة هؤلاء الأوروبيين الذاهلين، فيقول: «لا شك أن بعضكم يذكر البحث الذي أوردته الصحف البريطانية من سنوات، كان السؤال: لنفرض أن تمثالاً يونانيًا شهيرًا جميلاً فريدًا في نوعته، وهو من أجل ذلك لا يعوض، كان في غرفة واحدة مع طفل حي، ثم اندلعت النيران في الغرفة، ولم يكن في الإمكان إلا إنقاذ واحد من الإثنين إما التمثال وإما الطفل(!) فأيهما يجب إنقاذه؟.
إن كثرة عظمى من الذين أجابوا على هذا السؤال في رسائلهم إلى الصحيفة من الرجال ذوي الثقافة والمكانة المرموقة قالوا ـ حسب ما أذكر ـ أنه يجب إنقاذ التمثال وترك الطفل يهلك(!).
وكانت حجتهم في ذلك: أن ملايين الأطفال يولدون يوميًا على حين أن هذا التمثال لا يمكن تعويضه، فإنه عمل فني عظيم من تراث اليونان».
أرأيتم كفرًا أقبح من هذا الكفر؟ وإهانة للإنسانية أبشع من هذه الإهانة؟.
حجر يستنقذ وطفل رقيق وديع يترك حطبًا للنار؟.
المثير في هذه القضية أن مصورًا يرسم على الورق منظر الشروق أو الغروب بمهارة تحاكي الأصل أو تومئ إليه يعد فنانًا جديرًا بالإشادة والتقدير! أما صاحب الأصل نفسه، أما الله مبدع الكون سبحانه وتعالى ، فالق الإصباح ، وجاعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا، فهو يُنسى أو يُجحد، ولا توجه اليه عبارة ثناء!!.
عندما يجيء فنان نحات بحجر فيطبع عليه صورة إنسان، يكون رجلاً عظيمًا..
وتبلغ عظمته القمة عندما يقترب في نحته من قسمات الإنسان الأصيل وتعابير وجهه..
أما الله خالق الإنسان نفسه ومبدع الحياة في خلاياه ومجرى الدم في العروق، وبارئ الحس في الأعصاب، ومودع الذكاء في المخ، ومطلق هذا البشر العجيب ليملأ الدنيا حراكًا وإنتاجًا. هذا الخالق الماجد لا تذكره حضارة الغرب وغيرها من الحضارات الضالة بكلمة تقدير وإعزاز.
إن الفكر الوثني اليوناني والروماني انتقل إلى الحضارة الأوروبية، وليست النصرانية إلا قشرة مزورة ملصقة على وجه كفور يرفضها وينأى عنها.
أما الحضارة الإسلامية فشأو آخر، إنها ترمق عظمة الله قبل كل شيء، وانظر إلى أبي حامد الغزالي يتحدث عن الجمال وفنونه فيقول:«إن الفن محاكاة للجم
ال الذي أبدعه الله في آفاق العالم، أو هو تشبيه للصنعة بالخلقة وما من شيء بلغه أهل الصناعات بجهدهم إلا وله مثال في الخلقة التي اخترعها الصانع الأعلى! فمنه تعلم الصانعون، وبه اقتدوا! ».
ويقول في موضع آخر: « كل جمال في العالم تدركه العقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدئ العالم الى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى سفوح الثرى، فهو ذرة من خزائن قدرته سبحانه».
هكذ، ينبثق ذلك العطاء عن التصور والإحساس الإسلاميين القائمين على التوحيد المطلق لله، وتوجيه عميق صوبه ، وشعور تكاملي إزاء مخلوقاته التي هي لست سوى وسائط لتحقيق كمال خلافة الإنسان في الأرض.. ومن ثم ينفتح الباب واسعًا أمام الفنان المسلم ليفعل ما يشاء ، ولكن لم يخطر له يومًا أنه في معطياته الفنية إنما ينافس خلق الله لكي يكون هو إلهًا ، أو يسعى جاهدًا لإكمال النقائص التي لم يستتطع خالقه (أو آلهته) إتمامها، كما توهم بعض الفنانين الغربيين ، وكأنهم – بهذا – يحملون حسًا وتصورًا طفوليين يعودان بنا إلى عصور البشرية الأولى..فالإسلام أباح للفنان المسلم يفعل ما يشاء ولكن شرط أن يتجاوز طريقه المستقيم كالسهم ، صوب رفض وعداء للطبيعة ومحاولة للتفوق عليها وعلى صانعها، أو صوب إعجاب بها يتجاوز لحظات الاستغراق والتأمل إلى الإجلال والتقديس والعبادة!! .
المراجع:
– الإسلام في النظرية والتطبيق، لمريم جميلة
– الثقافة الإسلامية ، لمحمد مرمادوك بكثال
– السنة النبوية بين أهل الفقه .. وأهل الحديث ، للشيخ محمد الغزالي