بادية شكاط كاتبة جزائرية في الفكر والسياسة
عضو مؤسس في منظمة اعلاميون حول العالم
ليست الأنظمة الملكية وحدها هي الأنظمة الوراثية،بل حتى تلك الأنظمة الجمهورية التي تتوارث عقيدة الوظائفية لسلطة الدول القوية،فهي الأخرى أنظمة وراثية تعبد ماوجدت عليه آباءها،فإذا حاولت أن تشفي نفسها من علتها،وجدَت أن علتها في دوائها،إذ لايمكن أن يستقيم ظل أي نظام وعوده أعوج،فالحديث عن تغيير النظام بتغيير الحكام هو محض عبثية،إذ لايمكن فصل مفاصل الدولة عن جميع مايربطها من علاقات خارجية،و إن حرب روسيا على أوكرانيا ماهي إلا أولى التصدعات التي بدأت تنكشف في النظام الدولي القديم،والتي ينبغي على الدول المستضعفة إستغلالها للفكاك من عصمة الأنظمة المهيمنة،والبحث عن مواقع للتموقع على هامات نظام عالمي جديد وعلى أنقاض نظام عالمي قديم،
يقول أحد الباحثين في موقع مودرن دبلوماسي الأميركي :"إن الأزمة في أوكرانيا أكبر بكثير من مجرد مسألة تتعلق بأمن دولة ذات سيادة،وإن المعركة في تلك الدولة الواقعة في شرق أوروبا هي نزال من أجل النظام العالمي الجديد"
فاعتراف بوتين باستقلال دونيستك ولوغانسك كمنطقتين انفصاليتين في أوكرانيا تابعتين لروسيا لتبرير الإعتداءات العسكرية الوحشية على أوركرانيا،على غرار إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيين،ومنطقة ترانسنيستريا الانفصالية في مولدوف،لهو دليل على انفتاح الشهية التوسعية لروسيا،ومحاولتها إعادة أمجاد إمبراطورية الاتحاد السوفياتي،وليس الأمر ببعيد على دول البلطيق،بولندا أو فنلندا الذين يرفضون الانضمام إلى روسيا،وكذا حلفاء الإتحاد السوفياتي السابق في حلف وارسو،والذين هم جميعا الآن في حلف شمال الأطلسي "الناتو"
وهذا ما أشار إليه مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي في تسعينيات القرن الماضي،حين قال:"من دون أوكرانيا لن تعود روسيا إمبراطورية"
غير أن السؤال الجدير هو:
لماذا لم ترد أمريكا على روسيا عسكريا وهي تحاول فرض أجندتها عسكريا واكتفت ببعض العقوبات الإقتصادية؟
إن المطلع على العقيدة الروسية العسكرية يدرك تمامًا أنها عقيدة الوحش المفترس الدموية،وإن اكتفاء الغرب وعلى رأسهم أمريكا بمجرد عقوبات إقتصادية وتهديدات إذا تم المساس بأي دولة في حلف الناتو، لهو خير دليل على التغيير الكبير في العقيدة الأمريكية،التي صارت تؤمن بأن الحروب العسكرية هي استنزاف لها وهدر لطاقتها،وبدلا من ذلك صارت تخطط لإغراق العدو في بحر الدماء التي سفكها،بحيث أنه يفني نفسه بنفسه،فعدم خوف روسيا من اجتياح اوكرانيا وتهديدها لأي دولة تقف في طريقها ليس إلا عنترية فارغة،سرعان ماتجعلها تستنزف طاقتها،وتؤلب ضدها حتى حلفاءها في الإتحاد الأوروبي،فتنتكص إرادتها في التحول من عملاق يحمل الإتحاد الأوروبي على كفه،الى قزم يصفعه الإتحاد الأوروبي بكفه ومعه كلا من أمريكا وبريطانيا،فروسيا التي كانت تمد أوروبا ب65 في المائة من غازها،اليوم وبعد غزوها لأوكرانيا ستعتمد أوروبا على بدائل أخرى غيرها،إضافة إلى أن هدف الغرب اليوم هو إغراق روسيا في حروب تحيط بها من كل جنباتها،وليس مستبعد أن يشتعل البحر الأسود من أجل إنهاك روسيا،وعلى تركيا أن تتفطن إلى هذا المخطط،فحتى إن كانت تركيا ضمن حلف الناتو إلا أنها ليست الدولة التي يمكن أن ينتفض لأجلها كل دول الناتو،و أبسط دليل على ذلك أنها لعدة سنوات تعمل لأجل الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي،ولكنها لم تنل هذا المطمح،فتركيا تعتبر بمثابة الحجر الذي يسد به الثغرات رغم مابلغته من قوة على جميع الجبهات خاصة الجبهة العسكرية،فهي ثاني قوة عسكرية في الناتو بعد أمريكا،ومافعلته تركيا من رفض ماطالبت به كييف من غلق البحر الأسود أمام روسيا تطبيقًا "لإتفاقية مونترو" وكذلك رفضها التصويت على تعليق روسيا في الإتحاد الأوروبي لهو ذكاء دبلوماسي تركي يصب في ذات الهندسة الدبلوماسية التركية.
فعلى تركيا أن تحتفظ بكل الخيوط الدبلوماسية التي نسجتها سواء مع الغرب أو مع الشرق،وسياسة تصفير العلاقات هي السياسة التي ستبقي لتركيا مكانتها وكل ما نالته من امتيازات في علاقاتها الدولية،خاصة تطبيع علاقاتها مع دول الخليج وافريقيا، فهي بذلك تكسب حلفاء جدد يمكنها أن تلعب معهم لعبةً تقلب الطاولة على مخططات كل من روسيا وأمريكا،وعلى هاته الدول الثقة في تركيا كلاعب إقليمي مهم له أن يكون البديل عن الحلف القديم الذي سينهار قريبًا سواء كان الحلف الشرقي بقيادة الدب الروسي أو الغربي بقيادة أمريكا،إصافة إلى أن التدخل الروسي في كازاخستان مؤخرًا والذي أرادت من خلاله روسيا وضع يدها على جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقًا الناطقة باللغة التركية،هو الآخر يصب
في مصلحة تركيا،إذ أن ذلك سيخيف كل مناطق قزوين ويجعلها تبحث عن حليف قوي لمجابهة روسيا ولن يجدو أفضل من تركيا.
كذلك فإن روسيا لن تجد لها بديلا عن ألمانيا التي علقت خط نورد ستريم 2 لعبور غاز روسيا إلى أوروبا سوى تركيا،فيمكن أن تستخدم تركيا هذه الورقة حتى لايتم تهميش دورها في الناتو،وذلك بإيجاد بديل حقيقي لأوروبا يبرز دور تركيا ووزنها،وهذا بتمويل الجزائر بكل ماينقصها لإمداد أوروبا بالغاز،فهي الدولة التي تربطها بها علاقات قوية،كما أنها الأقرب إلى اوروبا والتي يمكنها أن تكون البديل عن روسيا.
أما إيران حليفة روسيا فلم يعد لها ذات السلطان على الدول العربية،وعلى رأسها الخليجية ،خاصة بعد أن فهمت هاته الأخيرة ضرورة إقامة تحالفات مع تركيا كقوة إقليمية محركة لتوازناتها،ومدركة لوزنها،لتصبح روسيا لوحدها في سوريا،وأمريكا باحثة عن التهدئة في اليمن بتقويض دور إيران،وغاضة الطرف عن كل ماسيصيب اسرائيل في المنطقة،وإن انتقل الصراع بين العرب واسرائيل الى الصراع بين روسيا واسرائيل،فالوقت لم يعد يسعف أمريكا لكي تتفرغ إلى حربها الحقيقية مع روسيا وحليفتها الصين،خاصة وأن الصين ستمشي على خطى روسيا،وستفعل بالتايوان مافعلته روسيا في اوكرانيا،مايجعل أمريكا ترتعد فرائسها من أن يسبح الإثنان بعيدًا عن فلك القطبية الأمريكية،وهذا هو التهديد الحقيقي الذي تراه أمريكا اليوم أولوية.
فهل يدرك العرب أنهم على مشارف فرصتهم التاريخية باقتلاع اسرائيل وكل حصونها الإستبدادية؟
بادية شكاط كاتبة جزائرية في الفكر والسياسة
عضو مؤسس في منظمة اعلاميون حول العالم
بفيينا النمسا